كان آدم يحس الوحدة.. ونام آدم يوما ما فلما استيقظ وجد عند رأسه امرأة تحدق في وجهه بعينين جميلتين ورحيمتين.. وربما دار بينهما هذا الحوار:
قال آدم: لم تكوني هنا قبل أن أنام.
قالت: نعم.
قال: جئت أثناء نومي إذن؟
قالت: نعم
قال: من أين جئت…؟
قالت: جئت من نفسك.. خلقني الله منك وأنت نائم.. ألا تريد أن تستعيدني إليك وأنت مستيقظ؟
قال آدم: لماذا خلقك الله؟
قالت حواء: لتسكن إلي.
قال آدم: حمدا لله.. كنت أحس الوحدة
سألته الملائكة عن اسمها. قال إن اسمها حواء.. سألوه: لماذا سميتها حواء يا آدم؟
قال آدم: لأنها خلقت مني.. وأنا إنسان حي
وأصدر الله تعالى أمره لآدم بسكنى الجنة. قال تعالى في سورة (البقرة):
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ
لا نعرف مكان هذه الجنة. سكت القرآن عن مكانها واختلف المفسرون فيها على خمسة وجوه. قال بعضهم: إنها جنة المأوى، وأن مكانها السماء. ونفى بعضهم ذلك لأنها لو كانت جنة المأوى لحرم دخولها على إبليس ولما جاز فيها وقوع عصيان. وقال آخرون: إنها جنة المأوى خلقها الله لآدم وحواء. وقال غيرهم: إنها جنة من جنات الأرض تقع في مكان مرتفع. وذهب فريق إلى التسليم في أمرها والتوقف.. ونحن نختار هذا الرأي. إن العبرة التي نستخلصها من مكانها لا تساوي شيئا بالقياس إلى العبرة التي تستخلص مما حدث فيها.
لم يعد يحس آدم الوحدة. كان يتحدث مع حواء كثيرا، ويستمعان لغناء الخلائق وتسبيح الأنهار، وموسيقى الوجود البكر، قبل أن يعرف الوجود معنى الأحزان والآلام. وكان الله قد سمح لهما بأن يقتربا من كل شيء وأن يستمتعا بكل شيء، ما عدا شجرة واحدة. قال الله لهما قبل دخول الجنة:
وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ
وفهم آدم وحواء أنهما ممنوعان من الأكل من هذه الشجرة. غير أن آدم إنسان، والإنسان ينسى، وقلبه يتقلب، وعزمه ضعيف. واستغل إبليس إنسانية آدم وجمع كل حقده في صدره، واستغل تكوين آدم النفسي.. وراح يثير في نفسه يوما بعد يوم. راح يوسوس إليه يوما بعد يوم:
هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى
تسائل أدم بينه وبين نفسه. ماذا يحدث لو أكل من الشجرة ..؟ ربما تكون شجرة الخلد حقا، وكل إنسان يحب الخلود. ومرت الأيام وآدم وحواء مشغولان بالتفكير في هذه الشجرة. ثم قررا يوما أن يأكلا منها. نسيا أن الله حذرهما من الاقتراب منها. نسيا أن إبليس عودهما القديم. ومد آدم يده إلى الشجرة وقطف منها إحدى الثمار وقدمها لحواء. وأكل الاثنان من الثمرة المحرمة. قال تعالى في سورة (طه):
وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى
ليس صحيحا ما تذكره صحف اليهود من إغواء حواء لآدم وتحميلها مسئولية الأكل من الشجرة. إن نص القرآن لا يذكر حواء. إنما يذكر آدم -كمسئول عما حدث- عليه الصلاة والسلام. وهكذا أخطأ الشيطان وأخطأ آدم. أخطأ الشيطان بسبب الكبرياء، وأخطأ آدم بسبب الفضول. احتقر أحدهما الإنسان، وأراد الآخر أن يجعل نفسه ندا لله بالخلود
لم يكد آدم ينتهي من الأكل حتى أحس أن صدره ينقبض. أحس الألم والحزن والخجل. اكتشف أنه عار، وأن زوجته عارية. اكتشف أنه رجل وأنها امرأة. وبدأ هو وزوجته يقطعان أوراق الشجر لكي يغطي بهما كل واحد منهما جسده العاري. وأصدر الله تبارك وتعالى أمره بالهبوط من الجنة.
وهبط آدم وحواء إلى الأرض. خرجا من الجنة. كان آدم حزينا وكانت حواء لا تكف عن البكاء. وكانت توبتهما صادقة فتقبل الله منهما التوبة.. وأخبرهما الله أن الأرض هي مكانهما الأصلي.. يعيشان فيهما، ويموتان عليها، ويخرجان منها يوم البعث
قال تعالي :
قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ
حكى الله تعالى قصة الدرس الثالث الذي تعلمه آدم خلال وجوده في الجنة وبعد خروجه منها وهبوطه إلى الأرض. قال الله تعالى في سورة (طه):
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى(118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121)ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى
يتصور بعض الناس أن خطيئة آدم بعصيانه هي التي أخرجتنا من الجنة. ولولا هذه الخطيئة لكنا اليوم هناك. وهذا تصور ساذج لأن الله تعالى حين شاء أن يخلق آدم قال للملائكة:
"إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً"
ولم يقل لهما إني جاعل في الجنة خليفة. لم يكن هبوط آدم إلى الأرض هبوط إهانة، وإنما كان هبوط كرامة كما يقول العارفون بالله. كان الله تعالى يعلم أن آدم وحواء سيأكلان من الشجرة. ويهبطان إلى الأرض. كان الله تعالى يعلم أن الشيطان سيغتصب منهما البراءة. وكانت هذه المعرفة شيئا لازما لحياتهما على الأرض. وكانت التجربة كلها ركنا من أركان الخلافة في الأرض. ليعلم آدم وحواء ويعلم جنسهما من بعدهما أن الشيطان طرد الأبوين من الجنة، وأن الطريق إلى الجنة يمر بطاعة الله وعداء الشيطان. هل يقال لنا أن الإنسان ميسر مجبور.. وأن آدم كان مجبورا سلفا على أن يخطئ ويخرج من الجنة ويهبط إلى الأرض. حقيقة إن هذا التصور لا يقل سذاجة عن التصور الأول. كان آدم حرا تمام الحرية. ولهذا تحمل تبعة عمله.
عصى وأكل الشجرة فأخرجه الله من الجنة.. معصيته لا تنافي حريته. بل إنها تستمد وجودها الأصلي من حريته. كل ما في الأمر أن الله كان يعلم سلفا ما سيحدث، يعلم الله الأشياء قبل حدوثها، ولكنه لا يدفعها دفعا أو يقهرها قهرا على الحدوث. إن الله يعطي الحرية لعباده ومخلوقاته.
ويرتب على ذلك حكمته العليا في تعمير الأرض وإقامة الخلافة فيها
يتبع