أشار الله في كتابه العزيز إلى قصة أصحاب الأخدود في آيات معدودة من سورة
البروج بشكل مختصر ، وذلك على طريقة القران في الإيجاز ، وعدم الخوض في
التفاصيل ، وجاء في الحديث النبوي مزيد بيان وتوضيح لهذه القصة وتفاصيلها
، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن صهيب رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
( كان ملك فيمن كان قبلكم ، وكان له ساحر ، فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت
فابعث إلي غلاما أعلمه السحر ، فبعث إليه غلاما يعلمه ، فكان في طريقه إذا
سلك راهب ، فقعد إليه وسمع كلامه فأعجبه ، فكان إذا أتى الساحر مر بالراهب
وقعد إليه ، فإذا أتى الساحر ضربه ، فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا
خشيتَ الساحر فقل : حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل : حبسني الساحر ،
فبينما هو كذلك ، إذ أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس ، فقال : اليوم
أعلم آلساحر أفضل أم الراهب أفضل ، فأخذ حجرا فقال : اللهم إن كان أمر
الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس ، فرماها
فقتلها ، ومضى الناس ، فأتى الراهب فأخبره ، فقال له الراهب : أي بني ،
أنت اليوم أفضل مني ، قد بلغ من أمرك ما أرى ، وإنك ستبتلى ، فإن ابتليت
فلا تدل علي ، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ، ويداوي الناس من سائر
الأدواء ، فسمع جليس للملك كان قد عمي ، فأتاه بهدايا كثيرة ، فقال ما
هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني ، فقال إني لا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله ،
فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك ، فآمن بالله ، فشفاه الله ، فأتى
الملك فجلس إليه كما كان يجلس ، فقال له الملك : من رد عليك بصرك ، قال :
ربي ، قال : ولك رب غيري ، قال : ربي وربك الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى
دل على الغلام ، فجيء بالغلام ، فقال له الملك : أي بني ، قد بلغ من سحرك
ما تبرئ الأكمه والأبرص ، وتفعل وتفعل ، فقال : إني لا أشفي أحدا ، إنما
يشفي الله ، فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب ، فجيء بالراهب ، فقيل
له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدعا بالمئشار ، فوضع المئشار في مفرق رأسه
فشقه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بجليس الملك ، فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى
، فوضع المئشار في مفرق رأسه فشقه به حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام ،
فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال : اذهبوا
به إلى جبل كذا وكذا ، فاصعدوا به الجبل ، فإذا بلغتم ذروته فإن رجع عن
دينه وإلا فاطرحوه ، فذهبوا به فصعدوا به الجبل ، فقال : اللهم اكفنيهم
بما شئت ، فرجف بهم الجبل فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك :
ما فعل أصحابك ، قال : كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفر من أصحابه فقال :
اذهبوا به فاحملوه في قرقور فتوسطوا به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلا
فاقذفوه ، فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة
فغرقوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك ، قال :
كفانيهم الله ، فقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، قال
وما هو ، قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، وتصلبني على جذع ، ثم خذ سهما
من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ، ثم قل : باسم الله رب الغلام ، ثم
ارمني ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على
جذع ، ثم أخذ سهما من كنانته ، ثم وضع السهم في كبد القوس ، ثم قال : باسم
الله رب الغلام ، ثم رماه ، فوقع السهم في صُدْغِهِ ، فوضع يده في
صُدْغِهِ في موضع السهم فمات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام ، آمنا برب
الغلام ، آمنا برب الغلام ، فأُتِيَ الملكُ فقيل له : أرأيت ما كنت تحذر ،
قد والله نزل بك حَذَرُكَ ، قد آمن الناس ، فأمر بالأخدود في أفواه السكك
فخدت ، وأَضْرَمَ النيران ، وقال : من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها ، أو
قيل له : اقتحم ففعلوا ، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها ، فتقاعست أن تقع
فيها ، فقال لها الغلام : يا أُمَّهِ اصبري فإنك على الحق ) .
إنها قصة غلام نور الله بصيرته ، وآتاه من الإيمان والثبات ، والذكاء والفطنة ،
ما استطاع به أن يغير حال أمة بأكملها ، وأن يزلزل عرش ذلك الطاغية
المتجبر ، الذي ادعى الألوهية من دون الله ، فقد كان لهذا الملك ساحر
يعتمد عليه في تثبيت ملكه ، وإرهاب الناس لينصاعوا لأمره ، فكبر سن هذا
الساحر ، وطلب من الملك أن يرسل له غلاما ، ليرث علمه ، ويخلفه في مهمته ،
وكان من إرادة الله الخير لهذا الغلام أن كان هو المرشح لهذه المهمة ،
وتعرف في أثناء ذهابه إلى الساحر وعودته من عنده على راهب مؤمن ، دعاه إلى
الإيمان والتوحيد فاستجاب له وآمن ، ودله الراهب على ما يتخلص به من تأنيب
الساحر وتأنيب أهله في حال تأخره عنهم ، وقد أراد الغلام أن يزداد يقينا
واطمئنانا بصحة ما دعاه إليه الراهب ، فوجد الفرصة سانحة عندما اعترضت
دابة عظيمة طريق الناس فعلم وتيقن أنه على الحق والهدى .
وعندها عرف الراهب أنه سيكون لهذا الغلام شأن عظيم فأخبره بطبيعة ما سيلقاه في هذا السبيل ، وتعرضه لألوان من الابتلاء .
ثم ذاع أمر الغلام واشتهر بين الناس ، وأجرى الله على يديه الكرامات من شفاء
المرضى وإبراء الأكمه والأبرص ، وكان يتخذ من ذلك وسيلة لنشر دعوته وتبليغ
رسالته ، حتى وصل خبره إلى الملك عن طريق جليسه الذي دعا له الغلام فشفاه
الله ، وشعر الملك من كلام الوزير ببوادر فتنة تهدد عرشه ، عندما صرح
بالألوهية والربوبية لغيره ، فأراد أن يعرف أصل هذه الفتنة ومصدرها ، حتى
وصل إلى الغلام ثم إلى الراهب ، وأراد أن يصدهم عن ما هم عليه ، فأبوا
واحتملوا العذاب والقتل على الكفر بالله ، وأما الغلام فلم يقتله قتلا
مباشرا كما فعل مع الوزير والراهب ، بل استخدم معه طرقا متعددة لتخويفه
وإرهابه ، طمعا في أن يرجع عن ما هو عليه ، ويستفيد منه في تثبيت دعائم
ملكه ، وفي كل مرة ينجيه الله ، ويعود إلى الملك عودة المتحدي ، وكان
الناس يتابعون ما يفعله الغلام خطوة بخطوة ، ويترقبون ما سيصل إليه أمره ،
فلما يئس الملك من قتله أخبره الغلام أنه لن يستطيع ذلك إلا بطريقة واحدة
يحددها الغلام نفسه ، ولم يكن الغلام يطلب الموت أو الشهادة ، بل كان يريد
أن يؤمن الناس كلهم ، وأن يثبت عجز الملك وضعفه، في مقابل قدرة الله
وقوته ، فأخبره أنه لن يستطيع قتله إلا بأن يجمع الناس في صعيد واحد ،
ويصلبه على خشبة ، ثم يأخذ سهمـًا - وليس أي سهم ، بل سهمـًا من كنانة
الغلام - ويرميه به قائلاً : بسم الله رب الغلام .
وكان للغلام ما أراد ووقع السهم في صدغه ثم وضع يده على مكان السهم ومات ، وما
كاد الغلام أن يسقط ميتاً ويتنفس الملك الصعداء بعد أن ظن أنه اقتلع هذه
الفتنة من جذورها ، حتى تنادى الناس من كل حدب وصوب مؤمنين بالله جل وعلا
، مرددين : " آمنا برب الغلام " .
وهنا جن جنون الملك ، وثارت ثائرته ، فقد وقع الأمر الذي كان يحذره ومن أجله
قتل الغلام ، فحفر الأخاديد ، وأضرم فيها النيران ، وتوعد كل من أصر على
دينه بأن يقذف فيها ، ولكن هيهات بعد أن كسر الغلام حاجز الخوف والرهبة في
نفوسهم ، وبين لهم بأبلغ رسالة وأفصح بيان عجز الملك وضعفه أمام قدرة الله
وقوته ، فرضي الناس بالتضحية بالنفس في سبيل الله ، على الرغم من أنه لم
يمض على إيمانهم إلا ساعات قلائل بعد الذي عاينوه من دلائل الإيمان ،
وشواهد اليقين ، وأنطق الله الرضيع عندما تقاعست أمه عن اقتحام النار،
فكانت آية ثبت الله بها قلوب المؤمنين .
إن هذه القصة تبين لنا قاعدة مهمة من قواعد النصر ، وهي أن الانتصار الحقيقي
هو انتصار المبادئ والثبات عليها ، وأن النصر ليس مقصوراً على الغلبة
الظاهرة ، فهذه صورة واحدة من صور النصر الكثيرة ، وأن الحياة الدنيا وما
فيها من المتاعب والآلام ليست هي الميزان الذي يوزن به الربح والخسارة ،
لقد انتصر هذا الغلام عدة مرات في معركة واحدة وموقف واحد ، انتصر بقوة
فهمه وإدراكه لأقصر وأسلم الطرق لنصرة دينه وعقيدته ، وإخراج أمته ومجتمعه
من الظلمات إلى النور ، وانتصر بقدرته على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت
المناسب ، متخطيا جميع العقبات ، ومستعليا على الشهوات ، ومتاع الحياة
الدنيا ، وانتصر عندما تحقق ما كان يدعو إليه وما قدم نفسه من أجله ،
وانتصر عندما فاز بالشهادة في سبيل الله ، وانتصر عندما خلد الله ذكره في
العالمين ، وجعل له لسان صدق في الآخرين ، صحيح أن الناس كلهم يموتون ،
ولكنهم لا ينتصرون جميعاً هذا الانتصار .