الرئيس الجزائري لا يحبّ «الطلاب الجاحدين» … يسافرون على حساب الخزينة … فماذا يغريهم بالعودة؟
«لا يمكن أن نزرع ويحصد الآخرون، هذه رسالتي لكم فاستوعبوها جيداً»، بلهجة غضب صارمة، خاطب الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة الطلبة المتفوقين في شهادة البكالوريا عام 2004. وبهذه الطريقة أبدى امتعاضه الشديد من ظاهرة هجرة الأدمغة والكفايات الجزائرية إلى الخارج، لا سيما الذين يحصلون منهم على منح الدولة ويغادرون بلا رجعة.
الا أن غضب الرئيس لم يوقف نزيف الكفايات الجزائرية التي تفرّ (على حد تعبير الجزائريين) بالآلاف سنوياً، بحثاً عن فضاء أرحب، لا سيما خلال عقد الإرهاب الذي استنزف البلاد وحرمها من خيرة كفاياتها، إن بلغة الرصاص التي قتلت المئات منهم، أو بدافع البحث عن تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية في بلد تتدفق على خزائنه دولارات البترول!
ربما لم يسبق لظاهرة هجرة الكفايات أن استفزت رئيساً جزائرياً بالقدر الذي حدث مع بوتفليقة الذي انتقد مراراً تلك الكفايات» «الهاربة». بل بلغ به الحد درجة اعلان توقيف منح الدراسة في الخارج للطلبة المتفوقين في شهادات البكالوريا موقتاً، وأمر الحكومة بما سماه «إحباط الحيل» بوضع قانون يجبر أصحاب المنح على إمضاء تعهد بعودة الطلاب إلى وطنهم وضمان الافادة من تكوينهم.
وقال بوتفليقة في خطاب: «… وهكذا، يؤلمني أن أقول إن الجامعة الجزائرية تكبدت هجرة 2600 مدرس بين 1993 و2000، عاد منهم إلى أرض الوطن قرابة 1000، ولله الحمد. أضف إلى هؤلاء المدرسين آلاف الأطباء والاختصاصيين (من بينهم أكثر من 3000 اختصاصي في الإعلام الآلي) هجروا البلاد ربما إلى غير رجعة. و من ثم نجد أنفسنا أمام وضع تزود فيه بلادنا الدول المتقدمة مجاناً بالمدرسين والباحثين المكونين في جامعاتنا. لذلك، من الضرورة القصوى أن تعد الحكومة بلا تعطيل برنامجاً عاجلاً مواتياً».
نزيف حاد
وعلى رغم تحسّن الوضع الاقتصادي في الجزائر، أشار تقرير الهجرة المخصص للبلدان العربية الصادر عن المنظمة العالمية للهجرة بالاشتراك مع الجامعة العربية خلال العام الحالي، إلى أن خطورة ظاهرة هجرة الكفايات الجزائرية التي لا تزال تتفاقم باستمرار، تكمن في الإجراءات البيروقراطية التي لا تشجع، بل تنفّر الكفايات من العودة إلى بلادها، وفشل نظام التسيير الإداري للدولة داخل الجامعات والقطاع الخاص. يضاف إلى ذلك تباطؤ الإصلاحات الاقتصادية، خاصة في المنظومة المصرفية.
محمد بن قرنة الباحث في علم الاجتماع وعضو مركز البحث الاقتصادي التطبيقي للتنمية، أجرى دراسة حول ظاهرة هجرة الكفايات الجزائرية عام 1992 بطلب من وزير التعليم العالي الراحل البروفسور الجيلالي اليابس، أحد خيرة الكفايات الجزائرية الذي حصدته آلة الإرهاب سنوات التسعينات. يقول بن قرنة عن تحليله لأسباب انتشار هذه «المعضلة» في الجزائر: «قمنا بجولة في الولايات المتحدة وفرنسا وكندا وبريطانيا خلال ستة أشهر والتقينا 50 اختصاصياً جزائرياً مهاجراً يشغلون مناصب قيادية في البنك الدولي ومنظمة الطيران العالمي وغيرها من الهيئات الأجنبية والعالمية، من بينهم الياس زرهوني الذي عينه الرئيس الأميركي جورج بوش على رأس هيئة معاهد الصحة الأميركية حالياً». ويضيف بن قرنة:» من خلال متابعتي المتواصلة للظاهرة، هناك ثلاثة أسباب رئيسة لهجرة الأدمغة الجزائرية: أولاً، شهدت الجزائر في الستينات حتى يومنا هذا، هجرة كفايات بحثاً عن التحصيل العلمي في أوروبا، ومن الطلاب من افاد من منح الدولة، لكن لم تكن هناك متابعة لهم، مقابل إغراءات وامتيازات كبيرة قدمت لهم في الجامعات الغربية ففضلوا البقاء هناك من دون عودة. ثانياً، أدى الارهاب الذي ضرب الجزائر طوال عقد من الزمن الى حدوث نزيف للكفايات الى الخارج، وثالثاً وبدرجة أقل، دفعت الظروف الاجتماعية وصعوبة التكيف هذه الكفايات إلى الهجرة».
استحالة العودة
وعن الإجراءات التي اتخذتها السلطات الجزائرية لاستعادة تلك الكفايات، يقول بن قرنة: «في السنوات الأخيرة، قام المسؤولون بمبادرة تستحق التقدير. فقد فهموا أن مطالبة تلك الكفايات بالعودة والاستقرار النهائي في الجزائر أمر شبه مستحيل. فبادرت الحكومة الى اتخاذ إجراءات جديدة تقوم على الاستعانة بتلك الكفايات عن بعد، من خلال إدراجها في مجالس البحث العلمي لمراكز البحث والمختبرات الجزائرية. فالكفايات المقيمة بخاصة في فرنسا وكندا والولايات المتحدة وبريطانيا تزور الجزائر مرتين في السنة على الأقل وتشارك في لقاءات مجالس البحث العلمي في الجامعات الجزائرية وتفيد بلدها بتقارير علمية وبآخر البحوث العالمية».
عبدالعزيز خياط (33 عاماً) يقيم في اليابان منذ أكثر من خمس سنوات، ويعكف على إنهاء رسالة دكتوراه في الإعلام الآلي، وهو من الكفايات الجزائرية الشابة التي التقاها بوتفليقة في طوكيو، وقال عنهم» «ما دام هناك جزائري يخترع رجلاً آلياً في اليابان، فالجزائر بخير». لكن خياط يعترف بأن العودة إلى الوطن أمر صعب إن لم يكن مستحيلاً: «سأنهي دراستي خلال بضعة أشهر، وأتمنى لو أستطيع العودة للمساهمة في بناء وطني، الا أن ذلك شبه مستحيل بل ضرب من الانتحار على الأقل في الوقت الراهن. فهناك فرق شاسع جداً في درجة تطور العلوم، كما لدي عروض من ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وطبعاً اليابان للاستقرار فيها، وأنا لم أتخذ قراري بعد».
أما ياسين (35 عاماً) فيعمل في إحدى شركات النفط البريطانية المستثمرة في الصحراء، ويقيم في مونتريال الكندية منذ أكثر من ثلاث سنوات. يقول: «ببساطة، من بين قرابة أربعة آلاف جزائري مقيمين في كندا، 3 آلاف على الأقل يتمتّعون بمستوى جامعي. فالكفايات أصبحت في السنوات الأخيرة تفضل الهجرة إلى كندا لأنه بلد العدالة والحقوق والحريات، والعنصرية هنا تعد جريمة، وحتى حينما لا تعمل فلديك الحق في العيش بفضل نظام الحماية الاجتماعية» وتابع ياسين بلهجة ساخرة: «في كندا عكس الجزائر، الماء لا ينقطع من الحنفية، والكهرباء لا تقطع حتى إن تأخرت في تسديد الفاتورة والنقل متوافر. فيمكنك أن تركز على التعليم والبحث أكثر من تركيزك على المشكلات الاجتماعية!».
وإن كانت الكفايات الجزائرية في مجال الإعلام والصحافة تفضل دول الخليج التي توفر رواتب مغرية، فإن تقريراً حول «الهجرة المتوسطية» مولته المفوضية الأوروبية يشير إلى أن من بين 10 آلاف طبيب أجنبي موجودين في فرنسا، يحمل 7 آلاف منهم الجنسية الجزائرية. ومن مجموع 18 ألف جزائري مقيمين في الولايات المتحدة، يعمل كثيرون في مجال البحث العلمي. كما توظف كندا الكفايات الجزائرية في مجال الإعلام الآلي. ووظفت ألمانيا أخيراً 300 جزائري في الاختصاص ذاته. وفي فرنسا، بلغ رقم أعمال التجار الجزائريين 20 مليار يورو، معظمها مستثمر في مجال الفندقة والمطاعم، في حين يستمر تقلص الأموال التي يحولها هؤلاء الجزائريون إلى بلادهم منذ عام 1980 ، اذ لم تتعد 2.5 مليار يورو، حُوّل 10 في المئة منها عبر قنوات غير رسمية.
الاستعانة بالأجانب
أمام تضارب الأرقام الرسمية في الجزائر، تشير الإحصاءات الصادرة عن المجلس الاقتصادي والاجتماعي الجزائري، الذي هو بمثابة هيئة رقابة استشارية تابعة لرئاسة الجمهورية، الى أنّ متوسط تكلفة تكوين كفاية جزائرية يصل إلى 100 ألف دولار. كما أن هجرة الكفايات الجزائرية كلّفت الاقتصاد القومي خسارة وصلت إلى 40 مليار دولار من 1992 إلى 1996 فقط. وهي الفترة التي عرفت نزيف الكفايات بسبب خطر الإرهاب. ناهيك بالخسارة التي تتكبدها الجزائر سنوياً جراء عدم افادتها من خبراتها المحلية، ولجوئها في المقابل إلى الاستعانة بكفايات أجنبية أو حتى جزائرية يتم استيرادها من الخارج! وعادة ما يصل مرتب الاختصاصي الأجنبي إلى 3 أو 4 أضعاف مرتب الاختصاصي الجزائري، في شركة مثل شركات النفط في الصحراء الجزائرية أو شركات الهواتف الخليوية. هذا على رغم أن كفاية الأجنبي ليست بالضرورة أفضل من كفاية الجزائري. وهذا عامل آخر يدفع الكفايات الجزائرية «عنوة» و «مضطرة» الى الهجرة بحثاً عن تقدير أفضل لمهاراتها. وعندما تعود هذه الكفايات تكون تكلفتها ارتفعت، لأن البلد الذي لم يقدرها لحظة وجودها في البلد، يضطر لاستعادتها بأضعاف التكاليف… وتلك مفارقة أخرى تدفع الكفايات الجزائرية الى الهجرة!